الفيلم الأول: A Short Film About Killing
بعد خمسة أعوام من عرض الفيلم البولندي قامت الحكومة البولندية بإلغاء عقوبة الإعدام نهائيا. فبعد أن قام "جاسيك" بطل الفيلم بقتل سائق تاكسي بوحشية وقسوة وبدون أي سبب أو دافع تقضي المحكمة بإعدامه شنقا. قوة الفيلم تكمن في الغموض الذي أحاط به المخرج دوافع المتهم, فهيئة المحكمة لم تهتم إلا بأدلة الإدانة دون أن تبدي أي اهتمام حقيقي لدوافع المتهم التي ظلت طوال الفيلم مبهمة, كما فشل المحامي المتخرج حديثا في العثور على أية أدلة تحسّن موقف المتهم "جاسيك", أو حتى تبرر فعلته بدوافع ما, ركّز الفيلم على تعامُل هيئة المحكمة مع "جاسيك" على انه مجرد حالة جنائية ومع الحكم على انه مجرد إجراء قانوني يجب ان يتم.
اللامبالاة التي تعامل بها بطل الفيلم مع العالم يبررها المخرج بأثر رجعي في تعامل المجتمع (هيئة المحكمة) مع "جاسيك", فكأن المجرم الضحية كان يعلم أنه مجرد نَص أبكم في قانون العقوبات, لا يعي "جاسيك" عقوبة فعلته قبل أن يقوم بجريمة, بل حتى أنه لم يعرف سائق التاكسي الضحية إلا قبل قتله بخمس قائق على الأكثر, فقد كان القاتل يصر على القتل ويترصد له لكن ليس تجاه شخص بعينه, ربما تجاه المجتمع ككل.
"جاسيك" كان ينتقم من المجتمع بعد موت أخته الصغيرة التي أحبها كثيرا, كان يكرهه لأنه يفتقد فيه الشئ الوحيد الذي احبه, كانت نشوة "جاسيك" المفضلة هي الوقوف أعلى احد كباري المشاة متفرجا على السيارات التي تعبر أسفل الكوبري, ثم يلقى بلامبالاة باردة حجرا كبيرا يسقط على زجاج سيارة مسرعة, لتعلوا أصوات التصادمات والفرامل وتنتعش معها ابتسامة جاسيك.
بطل الفيلم "جاسيك" المجرم بالنسبة للمخرج هو نفسه المجتمع اللامبالي المريض المؤذي. جاسيك الذي يجد سعادته في معاقبة المجتمع على موت أخته بكل برود, هو نفسه المجتمع الذي ينتقم من جاسيك بكل برود عندما قرر إعدامه شنقا, فقط لمجرد الإنتقام منه, وليس القصاص أو الردع. ففي تلك الغرفة القاتمة التي ليس فيها إلا رجال البوليس يتم إعدام "جاسيك", ولم تعلم حتى أوراق الأشجار خارج المبنى البارد أن أحدا بالداخل قد تدلى من المشنقة.
الإعدام بالنسبة لكيسلوفسكي مخرج الفيلم ليس أبدا وسيلة ردع, فوسيلة الردع التي تفتقد للعلانية ليست سوى انتقام, أيضا وسيلة الردع العلنية هي سادية علنية. يضع المخرج عقوبة الإعدام في ورطة منطقية, ويشير إليها بنفس اصابع الإدانة التي أشارت بها هيئة المحكمة إلى "جاسيك".
ثم يؤاخي المخرج في عبقرية فريدة بين ملابسات القتل وملابسات الإعدام. فجريمة القتل التي تفتقد لوجود ظروف القتل من استفزاز أو ثأر شخصي رغم توافر عنصر العمد, هي نفسها عقوبة الإعدام التي تأمر بها هيئة المحكمة والتي لا تتوافر بها ظروف الاستفزاز أو الثأر الشخصي رغم توافر عنصر العمد أيضا!
وينهي كيسلوفسكي الفيلم بتدلي "جاسيك" من على المشنقة, "جاسيك" الذي يمثل المجتمع اللامبالي كله الذي قام هو الآخر بجريمة قتل بدم بارد, سمتها كتب القوانين "عقوبة الإعدام"
الفيلم الثاني: Lion of the Desert
"حكمنا عليك بالإعدام شنقا أمام الناس, في بلدة سلوق الحادية عشر ظهر الغد"
هكذا قال رئيس المحكمة بصوت حاسم, ليتم تنفيذ الحكم, ويخرج طفل صغير من بين الناس ليلتقط نظارة "أنتوني كوين" (عمر المختار), في إشارة أرداها المخرج الشهيد "مصطفى العقاد", بأن الإعدام شنقا أمام الناس لا يردع, سواء كان المشنوق مجرما أم مجاهدا.
لم يخَف "عمر المختار" أبدا من الموت, سواء في أثناء الغارات التي شنها على الطليان أو حينما التف حبل المشنقة حول رقبته بلا غطاء للرأس أو عصابة على العين. ومشهد "عمر المختار" مبتسما وحول رقبته حبل المشنقة يذكرنا بمشهد آخر شديد القرب منا زمنيا, حينما تدلى "عبد المالك ريكي" زعيم جماعة جند الله على حبل المشنقة مبتسما ومحييا كل الحضور خلال قيام السلطات الإيرانية باعدامه شنقا أيضا أمام الناس 20 يونيو 2010.
الجريمة التي ارتكبها "عمر المختار أو "عبد المالك ريكي" لا تعد جريمة في أماكن اخرى من العالم, وإيطاليا التي اعتبرت عمر المختار مجرما اعتبرته منذ عام واحد بطلا, و"عبد المالك ريكي" الذي اعدمه النظام الإيراني الفاسد لم يكن ليموت لو وُلد في أي بلد مجاور لإيران. فالجريمة التي تستوجب الإعدام في مكان لا تستوجبه في مكان آخر.
إعدام "عمر المختار" في فيلم أسد الصحراء لم يكن سوى قرار سياسي من النظام الإيطالي, وبالطبع أي شخص سَوِي سيرفض الإعدام السياسي أيا كانت دوافعه وفي أي مكان كان, إلا أن الإعدام الجنائي لا يختلف كثيرا عن السياسي, فما هو جنائي في إيران هو سياسي في مصر, والجريمة الجنائية في سوريا ليست سوى خلاف سياسي في فرنسا.
"عمر المختار" قاتل بالمعنى "المجرد" للكلمة, إلا أن الدوافع هي التي تمييز القاتل مجرما أو مناضلا, والحكم على الدوافع يختلف من مكان لآخر, تماما كحكم الإعدام. ودوافع عمر المختار لم تقنع ايطاليا رغم أنها أقنعت كل الإنسانية, كما ان دوافع ذلك القاتل الفقير لن تقنع القاضي رغم أنها تقنع أيضا كل الإنسانية. بالطبع الدافع ليس مبررا لجريمة فردية, ولكن عدم قبول القضاء به أيضا ليس مبررا لجريمة قتل رسمية.
الفيلم الثالث: Dead Man Walking
تعاطفت الراهبة "هيلين" مع "ماثيو", و"ماثيو" قاتل ومغتصب وفقير, يعلم جيدا أن القتل جريمة فتكون آخر كلماته قبل الإعدام " القتل شىء خاطىء".
رغم فقر "ماثيو" إلا أن المخرج أراد أن يجعله متسما بوعي حاد, فلم تكن آخر كلمات "ماثيو" تلك هي أجمل ما قاله في الفيلم, فهو ذو وعي طبقي أيضا, يجعله يدرك جيدا أن الدولة تمكنت من اعدامه لأنه فقير, لأنه لم يوكل محاميا غنيا, بل حتى لأنه ولد في ظروف ماديه ونفسيه وتعليمية لم تحترم انسانيته, واستغلته كمجرد حجر رحايا, فيرد على جدال الراهبة له خلال محاولاتها لإقناعه أن إعدامه ربما يطهره قائلا: "وحدهم الفقراء يُحكم عليهم بالإعدام".
يشير "تيم روبنز" مخرج الفيلم بأصابع اتهام خفية للمجتمع, المجتمع الذي ولد فيه "ماثيو" فقيرا فسهل عليه أن يكون قاتلا, وفي الحقيقة أن عقوبة الإعدام التي تلقاها "ماثيو" لن تمنع من خرج للعالم في نفس ظروفه أن يرتكب جرما مماثلا, فقسوة العقوبة لا تحد من نسبة الجريمة, بل في الواقع وخارج نطاق الفيلم أن المجتمعات التي ألغت عقوبة الإعدام لم تزد فيها نسبة الجريمة, والمجتمعات التي لازالت تمارسها لم تقل فيها نسبة الجريمة.
"ماثيو" هو العجينة التي شكلها المجتمع على هواه, بالتأكيد لا ينفي هذا إرادته ومسؤوليته عن الجريمة, لكنه على الأقل لديه شريك حثه حثا بيدٍ خفيه على العنف. وإعدام "ماثيو" كجزاء على جريمة كان يستوجب إعدام المجتمع كله, الذي وقف طوال الوقت في وجه ذلك الفقير وفي وجه تعليمه أو معيشته.
المجتمع المريض بمرض الطبقية والاستغلال لا يصلح أن يحكم على أي مجرم بعقوبة مطلقة مثل الإعدام, قد يحكم بالسجن أو بالنفي, فهي عقوبات ليست مطلقة ويمكن في اي وقت أو بعد أي (ثورة) التراجع عنها. لكن أن يقوم مجتمع به عيوب جوهرية باصدار حكم مطلق كالإعدام على جريمة شارك فيها بطريقة أو بأخرى فتلك هي اللامنطقية بعينها.
في الحقيقة أن الجملة التي قالها ماثيو قبل إعدامه كان لها تكملة, فقد قال أمام من حضر إعدامه: "القتل شئ خاطئ, بغض النظر عمن يفعله سواء كنت أنا أم أنتم أمِ الحكومة".
الفيلم الرابع: The Life of David Gale
ركضت "كيت وينسلت" التي تقوم بدور الصحفية "بلوم" كثيرا في ذلك الفيلم, فقد جاءت نهاية الفيلم استكمالا لركضة "بلوم" في مشهد البداية, حيث كان معها دليل على براءة المتهم "ديفيد" والذي كان حينها في غرفة الغاز يتلقى عقوبة إعدامه.
وصلت الصحفية متأخرا, بالضبط كما أراد الاستاذ الجامعي "ديفيد جيل", ليدفع هو ورفيقته "كونستانس" ثمنا غاليا اختياريا لمناهضتهم عقوبة الإعدام. فالرفيقان عضوان في أحد حركات مناهضة الإعدام في أمريكا, ورغم كل ما بذلوه من نضال لإلغاء العقوبة لم يمكنهم من إقناع حاكم الولاية أو المواطنين بمدى توافر احتمال ان يخطئ القضاء في إعدام رجل برئ. فقرروا أن يقدموا بأنفسهم ذلك البرئ طواعية لآلة الإعدام القاتلة, قربانا من أجل الهدف الذي ناضلوا من اجله.
عندما وصلت الصحفية بدليل البراءة كان "ديفيد" قد مات, ولأن الإعدام عقوبة لا يمكن التراجع عنها بعد تنفيذها لم تستطيع المحكمة اصلاح ذلك الخطأ. فعقوبة لا يمكن التراجع عنها تحتاج بالتأكيد لمحكمة لا تخطئ. وقد أخطأت المحكمة حين قررت أن "ديفيد" قتل "كونستانس" واغتصبها, فقد انتحرت "كونستانس" بالاتفاق مع "ديفيد" ليصنعوا ملابسات تجعلها جريمة قتل وليس انتحارا, فيتم القبض على "ديفيد" وإعدامه. وعن طريقة ترك خيط ما للصحفية المخلصة, تكشف به براءة "ديفيد", لكن بعد فوات الاوان.
"آلان باركر" مخرج الفيلم يشير بقوة لقاعدة أن أي هيئة قضائية ليست معصومة من الخطأ كي تتمكن من إصدار حكم لا يمكن التراجع عنه كالإعدام. والدليل الأكبر على ذلك من عالمنا أن محكمة جنايات القاهرة التي اصدرت 200 حكما بالإعدام خلال عام 2009 هي نفسها التي قضت ببراءة المتهمين بموقعة الجمل. فالهيئة التي تمنح البراءة بالخطأ من الممكن أيضا أن تحكم بالإعدام بالخطأ.
دوما المجرم الفقير يتم إعدامه, والمجرم الغني يحصل على براءة رغم كونه لم يقتل فردا أو اثنين بل قام بجريمة توازي جريمة الإبادة, إلا أن وقاية المجتمعات من مجرمي الإبادة والفاسدين السياسيين لا تكون بقتلهم, ووجود هؤلاء المجرمين ليس مبررا لتشريع لن ينتهي بإعدامهم. فإعدام صدام حسين لم يمنع جرائم القذافي في حق شعبه. وإعدام القذافي لم يمنع مبارك أو بشَّار. وقاية المجتمعات من مجرمي الإبادة لا تكون بقتلهم ولا تبرر تشريع عقوبة الإعدام, لكن تطوير الآلية السياسية بين النظام والمواطنين هي التي تقي المجتمع.
بعدما كشف المخرج "ألان باركر" عن الفيلم عام 2003, كان له أكبر الأثر في إلغاء عقوبة الإعدام في العديد من الولايات الأمريكية. ليس تعاطفا مع الجريمة أو المجرم فهو في النهاية قد ارتكب خطأ فادحا, لكن أهم الأسباب في إلغاءها دوما هو دور المجتمع في تكوين المجرم بالإضافة لعدم معصومية المحكمة عن الخطأ الوارد بشدة طوال الوقت, فخصوصية عقوبة الإعدام تكمن في كونها لا يمكن أبدا التراجع عنها. ومما يذكر أن 72% من دول العالم قد قامت بإلغاء عقوبة الإعدام مستبدلة أياها بالسجن مدى الحياة او السجن المؤبد المشدد. ولم يعد الإعدام مستمرا سوى في الدول الإسلامية والصين وبعض الولايات الامريكية المعدودة.
د.أحمد الغيطي