عبور...
"لا سوف أعود للمنزل " كان ذالك ردي على عرض احد الاصدقاء بالخروج للتنزه بعد انهاء المحاضرات وفعلا , انهيت محاضراتي وتسمت الطريق نحو المنزل ...وكان لزاما على ان اعبر احدي تلك الطرق المسماه بالسريعة ...ولا اعرف علام سميت بهذا الاسم ؟ ...ألسرعة السيارات بها شوقا لإ نتزاع أرواح عابريها ؟؟...أم لسرعة العابرين بها خوفا من انتزاع ارواحهم ؟؟ ولكن منعتنى من العبور قافله صغيره مكونه من عربة خشبية قديمة متهالكة يجرها أحد البغال .... ووراؤها سيارة فارهة من تلك السيارات التى قد يلقى احدهم بنفسه تحتها حتى عندما يكبرابناؤه يفاخرهم بقوله ..." بترت ساقى عربة نوعها كذا...!!"
فأما العربة الخشبية فكانت تحمل على ظهرها أسرة مكونة من ثلاثة أفراد متلاصقون فيبدون وكأنهم فرد واحد , مستندين على اكياس من الدقيق مكتوب عليها "دقيق فاخر "!!
كان رب الاسرة وسائق العربة رجل يشي وجهه على انه اتم من العقود خمسا...ويكذب جسده هذه الوشاية دالا على انه في عقده الرابع...فقد كان وجهه الاسمر يشبه لون اخشاب عربته...و كانه اكسب لون الخشب لكثرة جلوسه عليه...وكانت التجاعيد تملا صفحة وجهه ...تبدو وكانها باطن يد لا بالمبسوطة ولا بالمقبوضة...مسقطة ظلال على بعضها البعض فتشعرك بانها تضاريس على خريطة مجسمة بها اخاديد وهضاب...تحمل في أعلاها عينين لهما نظرة عميقة بها من الاستسلام للقدر والرضاء لقداء ما يكفل بوضعه فى مرتبه المؤمنين ...
اما يداه الممسكتان بلجام بغله فكانتا مثل تلك اللتين اثنى عليهما ان الخطاب ... خشنه متشققه تمثل نهاية ذراع مفتول العضلات من النوع التى صنعت طعام ولم يصنها الطعام ...
تجلس عن يمينه سيده أو زوجته ملتصقه به...أبت الشمس الا ان تكسبها لونا برونزيا فكان يشي بجاذبية مكتسبة و تشي عيناها بجمال قديم القى الدهر عليه بستار شبه شفاف فلا هو يظهره ولا هو يخفيه...بل يجعله ينفذ أشعته خلاله فيبدو كالسحاب الذي حجب الشمس الا قليلا...فلا يزيدها ذلك إلا جمالا...وعوضها الدهر بشيء من السمنة فأذابت ما كان قد يصيب وجهها من تجاعيد...وأخفت سر كل امرأة ...ألا وهو حقيقة عمرها...تجلس بجوار زوجها...تتكئ عليه ويستند عليها...فكأنما يوحدان جسديهما بعد توحد روحيهما ليواجها الحياة بالحب والأمل...فهي تستمد من رجولته قوة تكمل بها ضعفها الفطري...وهو ينهل منها حنانا يعادل به شدته الطبيعية...ينظر إليها نظرة تملؤها الشكوى من واقعهم والخوف من مستقبلهم...فترد عليه بنظرة تملؤها المواساة والأمل والإطمئنان تصاحبها بسمة فيها من التشجيع ما فيها...
وكان يجلس من ورائهم ابنتهم...ذات جمال ثائر...تلبس هلاهيلا ممزقة فتبدو وكأن جمالها سخط على قديم ملابسها فأثار عاصفة هوجاء مزقت ملابسها فزادتها جمالا وفتنة...تمسك بين أصابعها الدقيقة كسرة خبز لا تكفي لإطعام طفل صغير...تأكل منها فتات وكأنها تقنع نفسها أنها كلما تأخرت كلما زاد شبعها...ولكن ...مر من أمامهم طفل شحاذ مسكين...نظر إليها نظرة لو تكلمت لقالت "أنا جائع..." فلم يكن منها إلا أن وضعت لقمة كانت في فمها في فمه...وكسرة كانت في يدها أصبحت في يده...وابتسمت له بفمها وعينيها وكأنه قد أكل لها لا لنفسه...كل ذلك ومن ورائهم أكياس الدقيق ...مكتوب عليها ..."دقيق فاخر...!!"
يجلس ثلاثتهمبين طرف العربة وأكياس الدقيق في مكان لا يسع فردا واحدا...فكيف بثلاثة أفراد...؟!
يجرهم جميعا بغل منكس الرأس وكأنه يحمل العربة بين أذنيه لا يجرها...أو كأن الله أبدله عينيه بأذنيه...فهو يرى بأذنه فينكس رأسه...يحرك أقدامه ولا يكاد يتحرك فكأنه ثبت في الهواء على مقربة من الأرض وجُعت الأرض تسير من تحته...فهو ثابت ولكنه متحرك...ولولا صوت نفير قوي أعقبه صوت فرقعة في الهواء ماتحرك هذا البغل...ومرت العربة من أمامي وو راءها السيارة الفارهة...قافلة صغيره أولعا بغل وآخرها سيارة...فكأن البغل يجرهم جميعا...
أما قائد السيارة فكان رجل مفرط السمنة...وهب سمنته معدة فوق معدته...فوهبته ذقنا تحت ذقنه...كان ممسكا بهاتفه بيد غضة لولا اتصالها بجسده لحسبتها يد امرأته...يغمغم فيه بكلام لم أفهم منه إلا "من هذا البغل الغبي...؟!" ولم أعرف من يقصد؟؟ أتراه يقصد البغل ذو العربة الخشبية...أم تراه يقصد الطرف الثاني على هاتفه ؟؟أو لعله حانت منه إلتفاتة-وهو مشغول الذهن- إلى مرآة سيارته فرأى نفسه فيها ...فلم يجد أبلغ من تلك الكلمات لوصف ذللك الرجل في المرآه...ثم حانت منه إلتفاتة إلى إمرأته بجواره...فرآها ساخطة عليه ...أو على نفسها ...تنظر إليه باستعلاء واستكبار...ملأت وجهها بألوان متنافرة...فكأنها ورقة بيضاء وظعت في يد طفل صغير يصاحبها علبة ألوان...فأخذ يرسم فيها خطوطا ليست ذات معلم أو قيمة أو تعبي...
مر عليهم الصبي الشحاذ نفسه...قال بصوت يتوسل "أنا جائع"...فلم تكن تلك الكسرة التي من سابقيهم تكفي لإطفاء نار جوعه...فلم يكن من المرأه ذات الألوان إلا أن أغلقت النافذة من دونه...ونظرت للناحية الأخرى...
أما في الخلف ...فكان يجلس صبي صغير...واحد...في مكان يكفي ثلاثة...ممسكا بكلتا يديه رغيفا لم يقضم منه إلا أعلاه...ويقول لأمه..."لقد شبعت" فقالت..."بجوارك النافذة"...ففتح النافذة...وألقى منها الرغيف...فوقع على قدمي...وكم آلمني وقعه...التقطه واتجهت ناحية العربة الخشبيه لعل ابنتهم تأخذه فيجد ذلك الرغيف من يحمد الله عليه...
وبينما أنا أهم بالإتجاه إليها...أذ بيد قوية تجذبني من ياقتي جذبة آلمتني...وسمعت صوتا يقول "أمجنون أنت...كيف تريد العبور وتلك المقطورة سائرة؟؟!!"...!! التفت ناحية القافلة فلم أجد إلا مقطورة من عربتين محملة بالأحجار...ونظرت إلى الرغيف في يدي فلم أجد إلا حجرا سقط على قدمي ولا زلت أشعر بألمه...لم أفهم شيئا!!!
ولكن مرت المقطورة...وأكملت العبور...
إنسان
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق