الموت للفقراء
(1)
ولدت بنتا لأب حداد في ورشة مقاول تقع في طرف المدينة البعيدة, لأم سمراء سمينة, تركتها منذ تعلمت المشي تلعب طوال
النهار في حارتهم, ذات الشوارع الضيقة المتسخه بقمامة أصحاب البيوت الكبيرة على الشارع الرئيسي, كبرت في بيتها الضيق المظلم ذو الرائحة المكتومة, تخرج للمدرسة كل صباح لتعود فتأكل بطاطس مطبوخة بخبز أسود قاس.
* * *
احتفلت ببلوغها العاشرة بدعوة أصدقاءها في الحارة على كوب عصير من الرجل ذو اللهجة الصعيدية على رأس الشارع الكبير صاحب محل العصير بمرآته الضخمة وأضواءه الباهرة وصوت الدف الصوفي من المسجل الضخم, رأت لأول مرة نفسها وهي تشرب رافعة الكوب لأعلى مسقطة عينيها من بين خديها على المرآة, ولاحظت حبوبا حمراء صغيرة على وجنتيها, ألهاها عن لمسها صفارة من أحد رفاقها مبديا اعجابه بسيارة فارهة مرت من الشارع الكبير أمام المحل, سرحت في ذلك الكتكوت الأصفر المرسوم على فستان الفتاة الصغيرة التي طلت من شباك السيارة.
في المساء, لم تتذكر حبوب وجنتيها الحمراوين. فقط حلمت بذلك الكتكوت الأصفر ذو العينان المتسعتان.
* * *
حينما سقطت مغشيا عليها في المدرسة كان قد مر على عيد ميلادها بضعة أسابيع, التف حولها رفاقها والمعلمة, التي سقتها كوب ماء بالسكر جعلها تفيق بكحة وشرق, في المساء حكى رفاقها لأمها كيف أغشى عليها, حينما تكررت الإغشاءات أخذتها أمها لوحدة قريتهم الصحية ذات الطبيب الشاب الذي ردت عليه بأنها في العاشرة حينما سألها عن اسمها, قال لأمها بأن ابنتها في طور البلوغ وتلك من علاماته, وعن الحبوب قال وهو يشير للمرضة لتدخل التالي أنها أيضا من علامات بلوغ البنت.
* * *
مر عام ولم تر أبدا ما تراه أي فتاة في طور البلوغ من علامات معروفة. فقط, تزداد نحافة وتزداد الحبوب على وجنتيها ويديها وتزداد اغماءاتها في المدرسة, لتفيق في كل مرة شارقة من كوب الماء والسكر من يد معلمتها حينا وأمها حينا.
لم تأخذها أمها لمستشفى المدينة الجامعي إلا حينما ضجت من تكرار الإغماءات كل يوم عدة مرات, دخلوا بعد انتظار ساعات في طابور غارق في لهب الشمس, خرجوا حاملين ورقة صغيرة عليها أسماء تحاليل طلبتها الطبيبة بالداخل, شهقت الأم في معمل المستشفى الجامعي حينما وجدت ثمن التحاليل أضعاف ما تحمل من نقود كانت تمثل كل مصروف الشهر, نظرت لابنتها حانقة لاعنة اليوم التي راتها فيه, وظلت على لعنها إياها حتى وصلوا قريتهم.
مرت عدة أشهر قبل ذلك اليوم الذي فاتحت فيه زوجها بثمن التحاليل, كانت ابنتها قد غابت نصف اليوم في إغماءة لم تفلح معها أكواب الماء والسكر, هاج وماج وثار لاعننا زوجته وبنته وعمله والحياة بأسرها, بكت بحرقة فضربها كثيرا, في النهاية رضخ ورمى لها النقود وخرج.
"فقر دم حاد, ذئبة حمراء, وتأخر حاد في وظائف الكبد والكلى, باللإضافة لفيروس كبدي مزمن", هكذا قالت الطبيبة في غرفة المستشفى الجامعي.
* * *
انزلقت قطرات العرق من جبينه الخشن واختلطت بدمعة همت بالفرار من عينه وهو أمام فرن الحدادة في عمله اليومي, شعر بالعجز من تلك الحياة الأكثر قسوة من الحديد الذي يطرقه بمطرقته الهائلة فيلين, فقد ذهب للصيدلية بورقة الدواء الذي كتبته الطبيبة لابنته فوجدها نصف مايكسب شهريا من عمله طول اليوم أمام فرن الحديد المشتعل.
بعد أربعة أشهر جاء الأب بدواء ابنته التي أصبح يغشى عليها كل يوم عدة مرات, وتمزق وجهها من الحبوب الحمراء وضمرت حتى صارت كعجوز مسنه.
* * *
"أيها الجهلة كيف تنتطرون دون اعطائها الدواء كل تلك المدة, ألا يكفي أنها لم تعالج لمدة عام ؟!" هكذا نهرتهم الطبيبة في المستشفى عند
ذهابهم لها الشهر الذي يليه, وقالت لهم أنهم سيقوموا بحجز البنت في المستفى لأن الكلتين قد عجزتا عن القيام بوظيفتيهما وأنها تحتاج لغسيل كلوي ثلاث مرات اسبوعيا, وكيسين دم, و.. و .. و ...
صرخت الممرضة في وجه البنت حينما بكت بشدة رافضة بخوف حجزها في المستشفى.
* * *
مرت أعوام, لم يعد الأب يستطع توفير نفقات علاج ابنته بعمله, استدان لكي يوفر ثمن أكياس الدم, وعمل نصف الليل حمالا ليوفر
ثمن بقية الدواء, عملت الأم عند أصحاب اليوت الكبيرة على الشارع الرئيسي لتوفر ثمن الطعام, دون جدوى.
غابت عن الغسيل ثلاث مرات متتالية بسبب غياب والدها ثم مرضه الذي أقعده طريح الفراش, هزل جسدها بشدة واصفر كورقة شجر ذابلة, منعها هوان قوتها حتى من دخول الحمام.
في المساء, بعدما نام أبواها, تناولت بضعف مرآة صغيرة بجوارها, نظرت في الظلمة للونها لأصفر الحاد, تذكرت الكتكوت الأصفر ذو العينان المتسعتان على فستان البنت التي طلت من شباك العربة الفارهة منذ عشر سنوات, ابتسمت بضعف, أغمضت عينيها. ولم تستيقظ ثانية.
(2)
انتظر بفارغ الصبر هذه المجموعة من الرجال, فقد اعتاد طوال الأسابيع الثلاثة الماضية مجيئهم مساء الجمعة كل اسبوع لحارتهم الضيقة, موزعين بعض الأظرف المغلقة الملونة المزدانة بشعار أخضر فيه مصحف يعلوا تقاطع سيفين, بالظرف بعض المال الذي وجد فيه معونة كبيرة على مصاريف علاج ابنته المريضة طريحة الفراش, شعر أنهم تأخروا رغم أن صلاة العشاء لم تكد تنتهي..
" ماتنسوش ياجماعة معادنا اللحد القادم بإذن الله, هانيجي نطلع سوا بعد صلاة الظهر من هنا, نتجمع ونطلع على المدرسة, ننصر أخونا في الله مرشحكم لمجلس الشعب, نتمنى من الله سبحانه إنه ينصرنا علشان الإسلام يرجع يحكم من تاني, ساعتها نهر الخير مش هايقف." هكذا قال الرجل ذو اللحية الخفيفة ورباط العنق, وزع الأظرف الخضراء على أهل الحارة.
* * *
ذهب لقهوة الحمالين, يبحث عن من يؤجره كحمال, فقد تطورت الأمور بسرعة, وانسحبت الجماعة من الإنتخابات وتوقفت زياراتهم الأسبوعية بالأظرف المغلقة, ومصاريف علاج ابنته لا يكفيها عمله بالحداده حتى المساء.
أذن الفجر ولم ينتهوا ببعد من تفريغ حمولة المقطورة الضخمة, أراح جسده على حافتها ماسحا عرقه فقد كاد جسده يتحطم تعبا, صاح فيه الرجل السمين ذخاتمه ذو الفص الأسود الضخم, " انت جاي ترقد هنا يابن الرمة, شيل يللا ورانا شغل".
مرت أيام يخرج من ورشته الحداده ليفرغ عربة النقل حتى الفجر, لم يعد يرى من الرجل السمين سوى خاتمه ذو الفص الضخم, لم يعد يسمعه, فقط, يرى فص الخاتم الأسود فيهب كمن ضربه كرباج, مفرغا حمولة المقطورة على حتفيه في المخزن.
مر أسبوع على عمله كحمال, كاد جسده أن يتحطم, لولا الصيدلي الطيب الذي يمر عليه فجرا وهو عائد لمنزله, فيعطيه حقنة تجعله لا يشعر من آلامه بشئ.
في ذلك اليوم لم تكن هناك مقطورة, فقط الرجل السمين مبتسما على غير العادة, " عاوز تاكل لقمة حلوة تعالى بكرة الساعه 12 الظهر قدام مدرسة الشهيد مبروك, خد دي وتعالى بيها معاك, وده دخانك وبكره هابسطك" ناوله عصا سوداء ضخمة, ومبلغا كأجرة يوم كامل, لو يلحظ منه سوى الخاتم ذو الفص الأسود الضخم.
* * *
أحدهم حداد أيضا, والآخر نقاش, أما الثلاثة الباقون فعمال محارة, "عاوزكم ماتخلوش جنس نملة تعدي من باب المدرسة, الباشا لو فاز
هابسطكم أخر حلاوة" هكذا قال الرجل السمين.
هجم مجموعة من الرجال عليهم, دارت معركة شخت فيها رأسه, من بين الدم السائل على عينيه استند على عصاه, لاحظ التطابق بين عصاه وعصى الأمن المركزي الواقف على البعد متفرجا, ذهب إليهم مستنجدا, ضربوه بشده, "بلطجي بلطجي", وقبضوا عليه.
* * *
خرج من السجن بعد شهرفي مرض شديد, استند على زوجته حتى رقد بجوار ابنته في المنزل, لم تأخذ علاجا منذ ما زاد على الشهر, فقط الطعام الذي تحضره الأم كل يوم من عملها كخادمة عند أحد اليوت الكبيرة بالشارع الكبير, .
* * *
وصل لتقاطع شارعي القصر العيني والشيخ ريحان, سكب محتويات البرميل على نفسه, وأشعل النار, أخذ فص الخاتم الأسود الضخم يكبر ويكبر حتى ملأ الدنيا سوادا في عينيه, ولم ير شيئا بعدها.
* * *
(3)
بكت بشدة بينما كانت تغسل أطباق الغداء في البيت الكبير, ماتت ابنتها من المرض وزوجها في اغشاءه طويلة منذ أسبوع في المستشفى الكبير, مربوط للسرير بكلابشات يرافقه أحد العساكر, فقد حاول الإنتحار حرقا أمام مجلس الشعب بعد موت ابنته.
" يحتاج لسته أكياس بلازما وإلا لن نستطيع انقاذ حيانه" هكذا أخبرها الطبيب, لا تملك من ثمن كل ذلك حتى الربع, جلست على رصيف المستشفى باكية, ولم يشغلها حتى كل هؤلاء الناس الذين يسيرون بهتافات تطالب بالحرية.
* * *
"انتشرت الأخبار بانسحاب قوات الأمن من البلاد, وانتشر البلطجية في كل مكان بعد يومين من بدء الإضرابات التي عمت البلاد" هكذا قال الرجل في التلفاز بلهجة إخباريه, يرقد أمام التلفاز صاحب المنزل الكبير الذي تعمل فيه خادمة, يصدر شخيرا عاليا وهو ممسك برموت التلفاز, خفق قلبا بشدة بينما كانت تتسلل لغرفة نوم الرجل, باحثة عن شئ يعينها على أكياس البلازما.
"سياسي من الحزب المنحل وجد مقتولا بشقته" وبجوار هذا العنوان نشرت الصحيفة صورتها. وصورة الرجل السمين مقتولا وبأصابعة خاتم أسود ذو فص ضخم, وجد مقتولا في بيته بسكين مطبخ ضخم, على دولابه بصماتها وفي بيتها وجدت المسروقات كاملة, أقسمت أنها لم ترتكب إلا لاسرقة, وأنها لم تقتله, واستشهدت بباب الشقة الذي وجد مكسورا وبانتشار البلطجية الذين يقتحمون المنازل.
"مات كافرا وليس شهيدا" هكذا كان خبر موت زوجها في الجرائد عندما أراها إياه المحامي المتطوع للدفاع عنها, وانهارت قوى التمرد على الحياة بداخلها.
في محاكمة عسكرية تم إصدار الحكم بإعدامها لقيامها بالسرقة بالإكراه والقتل العمد مع سبق الإصرار والترصد.
ولانها كانت سمينة وسمراء, ماتت بسرعة من حبل المشنقة.
أحمد الغيطي
25/6/2011