لحظة ميلادك لا تعرف أين ولدت, لا تعلم من هي أمك ولا حتى اسمك أنت, لا تدري بشرتك سمراء أم بيضاء, تتحدث الصينية أم العربية, صبي أم فتاة, حتى انك لا تدري هل أنت مسلم أم مسيحي أم بهائي أم حتى ملحد.
وعدم معرفتك يأتي من كون كل تلك المواصفات هي إضافات من المجتمع حولك, لو ولدت في افريقيا أبيض البشرة فأنت غريب, ولو ولدت أسمر البشرة في أمريكا بالتأكيد ستعاني من بقايا عنصرية في المجتمع. وربما لو ولدت في الصين ستصبح أحد البوذيين, رغم أنك نفسك لو ولدت في القاهرة ربما تكون أحد قيادات الجماعة السلفية.
للأسف الشديد, أنت لم تشارك المجتمع في اختيار اسمك او لغتك او حتى دينك.
الإنسان الزومبي
اعتادت كل المجتمعات المغلقة أن تنسخ اسطواناتها المشروخة في عقل كل مولود جديد يأتي للنور إلا من رحم ربي, فقط هؤلاء الذين يتمتعون باستطاعتهم تربية عقولهم على النقد أيا كان دينهم او عقيدتهم.
ربما لو كان المجتمع متعصبا ستصبح أنت أحد أدواته في التعصب, ولو كان منحلا ستكون أنت نفسك أحد مظاهر انحلاله, حتى لو كان المجتمع يكره الدجاج المشوي ستشعر أنت بمنتهى التقزز لمجرد فكرة تذوقه!
تدريجيا ستجد نفسك قد أصبحت أحد هؤلاء الذين تحدثت عنهم الاسطورة الافريقية, الفرد الذي سلبته الآلهة روحه وإرادته وحولته لفرد "زومبي", يتحرك بلا عقل لكن باخلاص رهيب لتنفيذ ما تمليه عليه الآلهة(المجتمع). ربما يقتل أو يهدم أو يحرق (وبمنتهى الاخلاص), هو لايفهم لماذا, فقط هو متعصب لفكرة ما دون أدنى التفكير. وكما يبرر السرد الأسطوري وجود ذلك "الزومبي" كعقاب له على جريمة اقترفها عندما كان بشرا, فإن معنى الاسطورة يستطرد ليتحول الإنسان لـ"زومبي" بمجرد ارتكابه جريمة اللاتفكير.
12 رجل غاضب
وتدريجيا عندما يجدك المجتمع قد أصبحت في القالب المطلوب, سيضمك لتنظيم الـ12 رجل غاضب, وهو الفيلم الذي تحدث عن 12 رجل عضوا في هيئة محلفين مطالبة بإصدار حكم على شاب متهم بقتل أبيه, وانسياقا وراء عاطفتهم المتعجلة في استهجان تلك الجريمة قرروا جميعا أن ذلك المتهم مذنب, باستثناء رجل واحد, رغم أنه لم يكن يمتلك أي أدلة على براءة الشاب إلا انه وبالبحث المنطقي استطاع ان يقنع كل أفراد هيئة المحلفين ببراءة ذلك الشاب, رغم أنهم كادوا أن يتحولوا جميعا لقتلة بدعوى الحفاظ على ماسموه "السلام الاجتماعي".
لو كنت تعتقد أن المثال مباشر أو حاد قليلا ببساطة أطالبك بفتح اليوتيوب ومشاهدة الفيديو الذي سجل تجمهر عشرات من "الرجال الغاضبين" أمام منزل ألبير صابر لمجرد أنه قد نشر الفيديو المسئ, وهو الفعل الذي قام به نصف الموجودين على موقع الفيسبوك!
ال "12رجل غاضب" موجودين في كل مكان, متوغلين في كل المجتمع, على رأس السلطة وفي المناطق الشعبية, أحدهم ربما قاضي وأخر نائب عن الأمة وآخرين موظفين في أجهزة الدولة والإعلام, ولكن أغلبهم من رجال الدين (أي دين), تسيطر عليهم جميعا فكرة واحدة فقط, الجهل. وبها يسيطرون على بقية المجتمع.
التعصب دين الدولة ..
في كل مناسبة دينية أو وطنية تنهال علينا الصحف بصور لرجال الدين الاسلامي والمسيحي وهم يقبلون ويباركون بعضهم البعض, في ابتذال فج لمفهوم كلمة التسامح الديني, ففي الوقت الذي يقّبل فيه شيخ الأزهر البابا نجده هو نفسه يشهر أسلحته ضد ما سماه المد الشيعي, أوحتى ضد المتصوفة, رغم أن تعداد هؤلاء وهؤلاء لا يقل بأية حال عن تعداد المسيحيين أنفسهم. فقط هي سياسة الدولة التي تتحكم في أي المناطق ينبغي إعلان التسامح وفي أيها ينبغي دق طبول الحرب. مضطهدين عمدا كل الطوائف الأخرى من الشعب.
السلام الاجتماعي (الذي اراده أيضا الـ12 رجل غاضب) لن يتحقق بمجرد صور فجة مبتذلة, وإلا لدافعت الصور عن عشرات المسيحيين الذين قتلوا وهجّروا, او البهائيين الذين حُرّقت منازلهم, أو حتى المتصوفة الذين تهدم أضرحتهم باستمرار. السلام الاجتماعي الحقيقي لن يتحقق إلا بعدما يدرك كل مواطنوا الدولة أن الخلاف والنقد لا يرادف التعصب والاعتداء, وذلك لن يتحقق أبدا إلا لو أُجبرت الدولة على سحب يدها العابثة بحرية الاعتقاد والنقد.
أنا مزدري ..
والحد الفاصل بين مصطلح النقد والازدراء هو حد وهمي, فلو أرادت السلطة اطلاق لفظ مزدري على أحد كبار المفكرين فإنها وبوجود أرض خصبة من الجهل ستفلح في ذلك, الحل الحقيقي ليس في تقنين النقد او اصدار قوانين تحرم الازدراء, فعندما سافر الشيخ أحمد ديدات إلى استراليا ليلقى محاضرة تنتقد الدين المسيحي في يوم يوافق أحد أهم الاعياد الدينية عندهم لم تمنعه الحكومة رغم الانتقادات الشديدة التي وجهها له رجال الدين المسيحي آنذاك, لم تعتبره الدولة مزدري أو مستخف بدينهم وعيدهم, الحل الحقيقي لمواجه النقد هو النقد المضاد أو النقاش الموضوعي أو حتى المناظرة.
تدّخل الدولة في تنظيم النقد الديني يفسد جوهر صدق الإيمان من الأساس ويحول قضية النقد إلى مشروع خصب للدعاية السياسية المضللة. أما الوقوف بجانب اطلاق حرية الابداع والنقد ومناهضة تدخل الدولة في تنظيم الشأن الفكري أو الديني هو الباب الأوسع لتطوير نظرة الانسان لنفسه بلا تعصب مسبق أو كره غير مبرر.
التعدي الحقيقي على الأديان ليس نقدها وإنما هدم أهم اركان التدين الحقيقي .. ألا وهو حرية الاعتقاد به, فالدول التي تفرض على شعوبها شكلا من أشكال التدين تنفي بذلك صدق إيمان كل مواطنيها, وتحول الدين لضريبة مفروضة على المواطنين غصبا. والأمثلة التاريخية على ذلك أكثر من أن تسرد.
الإزدراء بمفهومه المتداول وكما ينطبق عل الفيديو المسئ ينطبق أيضا على مئات الخطب التي يلقيها أئمة المساجد في آذان المصلين كل اسبوع. مهاجمين علنا وبكل صراحة كل الأديان السماوية الأخرى بما فيها الدين المسيحي, ولو كان لدى المجتمع والدولة القليل من الإنصاف لمُنِعَ هؤلاء من اعتلاء المنابر, لكن الحل الحقيقي ليس بالمنع وإنما بإطلاق حرية التعبير والاعتقاد والنقد بلا أي مشروطية نصية أو دستورية.
.. هذا انت الكافر
أي منا يؤمن بصحة رأي ما بالتأكيد يرى كل من يؤمنون بغيره "كفار", ولسنا هنا بصدد تغيير ذلك المفهوم بل الأهم هو تغيير التحرك الفردي والاجتماعي المترتب عليه. وإلا أصبحنا جميعا مثل كفار مكة, نحارب أي عقيدة جديدة تنشأ حتى لو كان غرضها إحداث تطور أخلاقي وسياسي في المجتمع.
فـ"تكفير الآخر" لا يعني بالضرورة قتله حيث وجد وتأطيير حريته في الاعتقاد والنقد والتفكير, وبهذا المعنى يصبح التكفير مدخلا للحرية لا بابا للقمع والاضطهاد الذي يخلق تطرفا مضادا يصبح هونفسه أكبر تهديد لـ"السلام الاجتماعي".
على مر التاريخ اعتبرت المجتمعات مرتفعة الجهل كل من يخرج عن السياق العام لدين الأغلبية منبوذ وينبغي استتابته بل وحتى عقابه بعقوبات وصلت تاريخيا للقتل والإعدام علنا, المجتمع الذي يضيق مواطنوه عن استيعاب التحول الديني لأحد افراده أو استيعاب النقد النصي أو الابداعي لمعتقدات الأغلبية هو مجتمع يفشل بالضرورة في الحفاظ على الحد الأدنى من الحرية الانسانية, و يدلل بقوة على ضعف إيمان أفراده, الذين يعوضون ذلك الضعف بالتعصب المستمر تجاه الآخر.
الحق في حرية التحول الديني والإلحاد يشبه تماما الحق في تغيير الأسم أو عنوان المنزل, فكما قلنا سلفا أن الدين موروث وليس اختيار, فتغييره بالتالي لا يبرر كل ذلك الاستنفار الاجتماعي والرسمي ضده.
التعصب الديني المسيس يتغير طبقا لأهواء السلطة, فكما دافعنا قبل الثورة عن حق المرأة التي طُردت من عملها بسبب حجابها, وعن الرجل الذي اضطهد من السلطة آنذاك بسبب اطلاقه لحيته, يجب أن ندافع الآن عن حق البهائيين في ممارسة شعائرهم, وعن حق المتصوفة في تأمين أضرحتهم, كذلك حق الملحدين في ممارسة النقد العلني لما يرفضوه من سياسيات الدولة وممارسات المجتمع.
د. أحمد الغيطي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق